فصل: تفسير الآيات (35- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (35- 38):

{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)}
{مَا كَانَ للَّهِ} ما ينبغي له {أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} جيء ب {من} لتأكيد النفي {سبحانه} نزه ذاته عن اتخاذ الولد {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} بالنصب شامي أي كما قال: لعيسى كن فكان من غير أب ومن كان متصفاً بهذا كان منزها أن يشبه الحيوان الوالد {وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} بالكسر شامي وكوفي على الابتداء وهو من كلام عيسى يعني كما أنا عبده فأنتم عبيده، علي وعليكم أن نعبده. ومن فتح عطف على {بالصلاة} أي وأوصاني بالصلاة وبالزكاة وبأن الله ربي وربكم، أو علقه بما بعده أي لأن الله ربي وربكم فاعبدوه {هذا} الذي ذكرت {صراط مُّسْتَقِيمٍ} فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً.
{فاختلف الأحزاب} الحزب الفرقة المنفردة برأيها عن غيرها وهم ثلاث فرق: نسطورية ويعقوبية وملكانية {مِن بَيْنِهِمْ} من بين أصحابه أو من بين قومه أو من بين الناس، وذلك أن النصارى اختلفوا في عيسى حين رفع ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى قول ثلاثة كانوا عندهم أعلم أهل زمانهم وهم: يعقوب ونسطور وملكان. فقال يعقوب: هو الله هبط إِلى الأرض ثم صعد إلى السماء. وقال: نسطور كان ابن الله أظهره ما شاء ثم رفعه إليه. وقال الثالث: كذبوا كان عبداً مخلوقاً نبياً فتبع كل واحد منهم قوم {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} من الأحزاب إذ الواحد منهم على الحق {مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة أو من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وجوارحهم بالكفر، أو من مكان الشهادة أو وقتها، أو المراد يوم اجتماعهم للتشاور فيه وجعله عظيماً لفظاعة ما شهدوا به في عيسى {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} الجمهور على أن لفظه أمر ومعناه التعجب والله تعالى لا يوصف بالتعجب ولكن المراد أن إسماعهم وإبصارهم جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صما وعمياً في الدنيا. قال قتادة: إن عموا وصموا عن الحق في الدنيا فما أسمعهم وما أبصرهم بالهدى يوم لا ينفعهم! و{بهم} مرفوع المحل على الفاعلية (كأكرم بزيد) فمعناه كرم زيد جداً {لكن الظالمون اليوم} أقيم الظاهر مقام المضمر أي لكنهم اليوم في الدنيا بظلمهم أنفسهم حيث تركوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ووضعوا العبادة في غير موضعها {فِى ضلال} عن الحق {مُّبِينٌ} ظاهر وهو اعتقادهم عيسى إلها معبوداً مع ظهور آثار الحدث فيه إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم.

.تفسير الآيات (39- 41):

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)}
{وَأَنذِرْهُمْ} خوفهم {يَوْمَ الحسرة} يوم القيامة لأنه يقع فيه الندم على مافات، وفي الحديث: «إذا رأوا منازلهم في الجنة أن لو آمنوا» {إِذْ} بدل من {يوم الحسرة} أو ظرف للحسرة وهو مصدر {قُضِىَ الأمر} فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار {وَهُمْ في غَفْلَةٍ} هنا عن الاهتمام لذلك المقام {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} لا يصدقون به {وهم} {وهم} حالان أي وأنذرهم على هذا الحال غافلين غير مؤمنين {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} أي نتفرد بالملك والبقاء عند تعميم الهلك والفناء وذكر من لتغليب العقلاء {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} بضم الياء وفتح الجيم وفتح الياء: يعقوب أي يردون فيجازون جزاءً وفاقاً.
{واذكر} لقومك {فِى الكتاب} القرآن {إِبْرَاهِيمَ} قصته مع أبيه {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً} بغير همز وهمزة نافع. قيل: الصادق المستقيم في الأفعال والصديق المستقيم في الأحوال، فالصديق من أبنية المبالغة ونظيرة الضحيك والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله أي كان مصدقاً لجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبياً في نفسه، وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين إبراهيم وبين ما هو بدل منه وهو.

.تفسير الآيات (42- 45):

{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)}
{إِذْ قَالَ} وجاز أن يتعلق {إذا} ب {كان} أو ب {صديقاً نبياً} أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم كقوله {واتل عليهم نبأ إبراهيم} [الشعراء: 69] وإلا فالله عز وعلا هو ذاكره ومورده في تنزيله {لأَِبِيهِ ياأبت} بكسر التاء وفتحها. ابن عامر والتاء عوض من ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض منه {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} المفعول فيهما منسي غير منوي ويجوز أن يقدر أي لا يسمع شيئاً ولا يبصر شيئاً {وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً} يحتمل أن يكون شيئاً في موضع المصدر أي شيئاً من الإغناء وأن يكون مفعولاً به من قولك أغن عني وجهك أي بعد {ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم} الوحي أو معرفة الرب {مَا لَمْ يَأْتِكَ} {ما} في {ما لا يسمع} و{ما لم يأتك} يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة {فاتبعنى أَهْدِكَ} أرشدك {صِرَاطاً سَوِيّاً} مستقيماً {ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} لا تطعه فيما سوَّل من عبادة الصنم {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} عاصياً. {ياأبت إِنّى أَخَافُ} قيل أَعلم {أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً} قرينا في النار تليه ويليك فانظر في نصيحته كيف راعى المجاملة والرفق والخلق الحسن كما أمر ففي الحديث: «أوحي إلى إبراهيم إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار» فطلب منه أولاً العلة في خطئه طلب منه على تماديه موقظ لإفراطه وتناهيه، لأن من يعبد أشرف الخلق منزلة وهم الأنبياء كان محكوماً عليه بالغي المبين فكيف بمن يعبد حجراً أو شجراً لا يسمع ذكر عابده ولا يرى هيئات عبادته ولا يدفع عنه بلاء ولا يقضي له حاجة؟ ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً، فلم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال: إن معي شيئاً من العلم ليس معك وذلك علم الدلالة على الطريق السوي، فهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه، ثم ثلث بنهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي عصى الرحمن الذي جميع النعم منه أوقعك في عبادة الصنم وزينها لك فأنت عابده في الحقيقة، ثم ربَّع بتخويفه سوء العاقبة وما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال مع مراعاة الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق به وأن العذاب لاصق به بل قال: أخاف أن يمسك عذاب بالتنكير المشعر بالتقليل كأنه قال: إني أخاف أن يصيبك نَفَيان من عذاب الرحمن وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب كما أن رضوان الله أكبر من الثواب في نفسه وصدر كل نصيحة بقوله {يا أبت} توسلاً إليه واستعطافاً وإشعاراً بوجوب احترام الأب وإن كان كافراً فثم.

.تفسير الآيات (46- 47):

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)}
{قَالَ} آزر توبيخاً: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإبراهيم} أي أترغب عن عبادتها فناداه باسمه ولم يقابل {يا أبت} ب (يا بني) وقدم الخبر على المبتدأ لأنه كان أهم عنده {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} عن شتم الأصنام {لأرْجْمْتَّكَ} لأقتلنك بالرجام أو لأضربنك بها حتى تتباعد أو لأشتمنك {واهجرنى} عطف على محذوف يدل عليه {لأرجمنك} تقديره فاحذرني واهجرني {مَلِيّاً} ظرف أي زماناً طويلاً من الملاوة {قَالَ سلام عَلَيْكَ} سلام توديع ومتاركة أو تقريب وملاطفة ولذا وعده بالاستغفار بقوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} سأسأل الله أن يجعلك من أهل المغفرة بأن يهديك للإسلام {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً} ملطفاً بعموم النعم أو رحيماً أو مكرماً والحفاوة الرأفة والرحمة والكرامة.

.تفسير الآيات (48- 52):

{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)}
{وَأَعْتَزِلُكُمْ} أراد بالاعتزال المهاجرة من أرض بابل إلى الشام {وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي ما تعبدون من أصنامكم {وادعوا} وأعبد {رَبّى} ثم قال تواضعاً وهضماً للنفس ومعرضاً بشقاوتهم بدعاء آلهتهم {عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا} أي كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} فلما اعتزل الكفار ومعبودهم {وَهَبْنَا لَهُ إسحاق} ولداً {وَيَعْقُوبَ} نافلة ليستأنس بهما {وَكُلاًّ} كل واحد منهما {جَعَلْنَا نَبِيّاً} أي لما ترك الكفار الفجار لوجهه عوضه أولاداً مؤمنين أنبياء {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا} هي المال والولد {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ} ثناء حسناً وهو الصلاة على إبراهيم وآل إبراهيم في الصلوات، وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية {عَلِيّاً} رفيعاً مشهوراً.
{واذكر في الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} كوفي: غير المفضل، أي أخلصه الله واصطفاه، و{مخلِصا} بالكسر غيرهم أي أخلص هو العبادة لله تعالى فهو مخلص بماله من السعادة بأصل الفطرة، ومخلص فيما عليه من العبادة بصدق الهمة {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب كيوشع {وناديناه} دعوناه وكلمناه ليلة الجمعة {مِن جَانِبِ الطور} هو جبل بين مصر ومدين {الأيمن} من اليمين أي من ناحية اليمين، والجمهور على أن المراد أيمن موسى عليه السلام لأن الجبل لا يمين له، والمعنى أنه حين أقبل من مدين يريد مصر نودي من الشجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى عليه السلام {وَقَرَّبْنَاهُ} تقريب منزلة ومكانة لا منزل ومكان {نَجِيّاً} حال أي مناجياً كنديم بمعنى منادم.

.تفسير الآيات (53- 57):

{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)}
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} من أجل رحمتنا له وترؤفنا عليه {أَخَاهُ} مفعول {هارون} بدل منه {نَبِيّاً} حال أي وهبنا له نبوة أخيه وإلا فهارون كان أكبر سناً منه.
{واذكر في الكتاب إسماعيل} هو ابن إبراهيم في الأصح {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} وافيه. وعد رجلاً أن يقيم مكانه حتى يعود إليه فانتظره سنة في مكانه حتى عاد، وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى. وقيل لم يعد ربه موعداً إلا أنجزه، وإنما خصه بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له ولأنه المشهور من خصاله {وَكَانَ رَسُولاً} إلى جرهم {نَبِيّاً} مخبراً منذراً {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} أمته لأن النبي أبو أمته وأهل بيته وفيه دليل على أنه لم يداهن غيره {بالصلاة والزكاة} يحتمل أنه إنما خصت هاتان العبادتان لأنهما أما العبادات البدنية والمالية {وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً} قرئ {مرضوا} على الأصل {واذكر في الكتاب إِدْرِيسَ} هو أخنوخ أول مرسل بعد آدم عليه السلام، وأول من خط بالقلم وخاط اللباس ونظر في علم النجوم والحساب واتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل. وقولهم سمي به لكثرة دراسته كتب الله لا يصح لأنه لو كان (أفعيلاً) من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفاً فامتناعه من الصرف دليل العجمة {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً} أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} هو شرف النبوة والزلفى عند الله. وقيل: معناه رفعته الملائكة إلى السماء الرابعة، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فيها. وعن الحسن: إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة وذلك أنه حبب لكثرة عبادته إلى الملائكة فقال: لملك الموت أذقني الموت يهن عليّ ففعل ذلك بإذن الله فحيى وقال: أدخلني النار أزدد رهبة ففعل، ثم قال: أدخلني الجنة أزدد رغبة، ثم قال: اخرج فقال: قد ذقت الموت ووردت النار فما أنا بخارج من الجنة فقال الله عز وجل: بإذني فعل وبإذني دخل فدعه.

.تفسير الآيات (58- 59):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)}
{أَوْلَئِكَ} إشارة إلى المذكورين في السورة من زكرياء إلى إدريس {الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين} {من} للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم {مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ} {من} للتبعيض وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبي نوح {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه ولد سام بن نوح {وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم} إسماعيل وإسحاق ويعقوب {وإسراءيل} أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى لأن مريم من ذريته {وَمِمَّن} يحتمل العطف على {من} الأولى والثانية {هَدَيْنَا} لمحاسن الإسلام {واجتبينا} من الأنام أو لشرح الشريعة وكشف الحقيقة {إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن} أي إذا تليت عليهم كتب الله المنزلة وهو كلام مستأنف. إن جعلت {الذين} خبراً ل {أولئك} وإن جعلته صفة له كان خبراً. {يتلى} بالياء: قتيبة لوجود الفاصل مع أن التأنيث غير حقيقي {خَرُّواْ سُجَّداً} سقطوا على وجوههم رغبةً {وَبُكِيّاً} باكين رهبة جمع باكٍ كسجود وقعود في جمع ساجد وقاعد في الحديث: «اتلوا القرآن وابكوا وإن لم تبكوا فتباكوا» وعن صالح المري: قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا صالح: «هذه القراءة فأين البكاء؟» ويقول في سجود التلاوة سبحان ربي الأعلى ثلاثاً.
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} فجاء من بعد هؤلاء المفضلين {خَلْفٌ} أولاد سوء وبفتح اللام العقب الخير. عن ابن عباس: هم اليهود {أَضاعُوا الصلاة} تركوا الصلاة المفروضة {واتبعوا الشهوات} ملاذ النفوس. وعن عليّ رضي الله عنه: من بنى الشديد وركب المنظور ولبس المشهور. وعن قتادة رضي الله عنه: هو في هذه الأمة {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} جزاء غي وكل شر عند العرب غي وكل خير رشاد. وعن ابن عباس وابن مسعود: هو وادٍ في جهنم أعدّ للمصرين على الزنا وشارب الخمر وآكل الربا والعاق وشاهد الزور.

.تفسير الآيات (60- 62):

{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)}
{إِلاَّ مَن تَابَ} رجع عن كفره {وَآمَنَ} بشرطه {وَعَمِلَ صالحا} بعد إيمانه {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة} بضم الياء وفتح الخاء: مكي وبصري وأبو بكر {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} أي لا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه بل يضاعف لهم أو لا يظلمون شيئاً من الظلم {جنات} بدل من {الجنة} لأن الجنة تشتمل على جنات عدن لأنها جنس أو نصب على المدح {عَدْنٍ} معرفة لأنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة أو علم لأرض الجنة لكونها مقام إقامة {التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ} أي عباده التائبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات كما سبق ذكرهم ولأنه أضافهم إليه وهو للاختصاص وهؤلاء أهل الاختصاص {بالغيب} أي وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها {إِنَّهُ} ضمير الشأن أو ضمير الرحمن {كَانَ وَعْدُهُ} أي موعوده وهو الجنة {مَأْتِيّاً} أي هم يأتونها {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا} في الجنة {لَغْواً} فحشاً أو كذباً أو ما لا طائل تحته من الكلام وهو المطروح منه، وفيه تنبيه على وجوب تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله عنه داره التي لا تكليف فيها {إِلاَّ سلاما} أي لكن يسمعون سلاماً من الملائكة أو من بعضهم على بعض، أو لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة فهو استثناء منقطع عند الجمهور. وقيل: معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ولما كان أهل دار السلام أغنياء عن الدعاء بالسلامة، كان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أي يؤتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار من الدنيا إذ لا ليل ولا نهار، ثم لأنهم في النور أبداً وإنما يعرفون مقدار النهار برفع الحجب ومقدار الليل بإرخائها. والرزق بالبكرة والعشي أفضل العيش عند العرب فوصف الله جنته بذلك. وقيل أراد دوام الرزق كما تقول (أنا عند فلان بكرة وعشياً) تريد الدوام.